❗خاص صدى الولاية ❗
حمزة العطار
مرة جديدة يلف قلوبنا وأيامنا سوادٌ قاتم، تبسطه ليالي شباط الحزينة علينا، فتعود الذكرى، ويعود الأسى وتدمع القلوب والعيون، وتغيب البسمة مجدداً، لأنهم اعتادوا التلاقي جميعاً في شباط الكآبة، حتى بتنا نكره تلك الليالي وتلك الأيام ونحاول جاهدين شطبها من قواميس أفكارنا، علهم يرجعون، لأننا ما تعودنا على رحليهم بعد ولن نتعود .
ما أقساك كنت من شهر ترك في قلوبنا الكثير من الندوب ولا يزال، وها هو الثالث والعشرين منك سيأتي لنحمل قلوبنا نحو الرحيل، عجل بالمرور، وعجل بالرحيل، فلقد أتعبتنا أكثر من كل ما مضى .
يأتينا الثالث والعشرين من شباط، قاسياً لا ببرودته فحسب، بل بطعنات الرحيل التي أصابت فينا مقتلاً من جديد .
فها هو الراغب لا نزال نتذكره ونكررها بأن الموقف سلاح والمصافحة اعتراف، وكيف لنا أن ننسى ما اعتدناه كما صلواتنا، نتلوه في كل يوم وكل مرة وكل حين .
ولمّا تكن قد بردت نيران شوقنا حتى أشعلها الصهيوني مجدداً حينما قطف العباس ومن معه، وسار بهم نحو المجهول، بل المعلوم الذي أراده دوماً وتمنى، وكان له ما أراد، تلك الشهادة التي أَنِست بها صلاته في كل حين، ولا يزال صداها في خيمته في مليتا، بأن يتفتت فيها جسده وتفارق روحه ذلك الجسد، وسار نحو الخلود، مرافقاً عباس وأم ياسر ليستقبلهم حينها شيخ الشهداء هناك، ويحلقون ويسلموا على الجميع، الذين فازوا حينما لم يعودوا .
وتكر سبحة شباط الحزين، مع الرضوان، مع العماد، الذي أتعبه تعقبهم له كثيراً وما أفلحوا، فكانت النهاية، لا هي البداية، في شام زينب، لتستقبله وتضمه في عليين مع أولئك الذين سبقوا وفازوا .
وهل الحكاية انتهت ؟
بالطبع لا، لم تنتهِ ولن يحين وقت نهايتها بعد .
فها هو الثرى قد استعد مجدداً لإستقبال الأمينين، الهاشمي وأبا الهادي، وقد فتحت كلٌ من الضاحية ودير قانون قلوبها لإحتضانهما، فوزاً بجائزة يغبطها عليهم الكثيريون، في مقدمتهم بعلبك، تلك التي أحبها وأحبته وهو الذي تذكر دوماٍ تفاصيلها وتفاصيل شوارعها كما اعتاد السؤال عن رفاق الشباب والإطمئنان عليهم، وهم الذين أخذوا منه ما لم نستطع أن نأخذ جله، فقد أخذوا الفؤاد الطاهر الذي غبطناهم مراراً على تلك العطية التي حازوها .
غَبطتهم كثيراً حينما كان يخص بالسؤال عن بعضهم بالإسم، أحواله وما فعلته بهم الدنيا، ولكم شعرت بالغيرة العُظمى، حينما يسأل لبعض البقاعيين، عن أبي جعفر، وحالته مع السكري، وكيف صارت أحواله، ليستطرد مبتسماً بالحديث عن اللحمة النيئة والمشهورة(الكفتة) التي كان يعشقها من صنيعة يدي أبي جعفر ويتلهف البقاع ليتناولها، قبل أن يقلع عن اللحوم النيئة . ذكرى من هنا وطرفة من هناك تزيدنا نحن العاشقين للبقاع عشقاً حينما يقصها أو حينما يرسم طريقاً طالما قصده في الشباب، ويسرده بالتفاصيل والمفارق، كأنه سار عليه قبيل السرد بقليل، وأحداث وروايات، ستسظل تحفر في القلوب، أطرفها قصة حادث السيارة ال volvo الجديدة التي قامت به خطيبة الحاج علي حينها وهي تتعلم القيادة في سيارته التي كانت فرحته بها لم تكتمل بعد، وروايات أكثر لا يتسع الوقت ولا القلب لذكرها، فهي قد فعلت فعلها الآن وأكثر وسمحت لشلالات دموعي أن تنهمر دونما حواجز، مستذكرة كثيراً من أحداث لن تُنسى، وكيف لها أن تُنسى، بعدما فعلت فعله في القلب، حين حضوره، كيف الآن ما بعد الغياب .
لكن، رويداً أي غياب ؟ وهو الحاضر دوماً ؟
وكيف ستسمح لنا الذاكرة بذلك ؟ أتراها تستطيع محو كل ذلك ؟!
بالطبع لا
ولكن، لن نستطيع محو قساواتك وبرودتك يا شباط، ولن يخرجوا من مخيلاتنا جميعاً، خاصة في بعض أحداثهم التي خبأها الزمن وخبأته قلوبنا وستظل طي الكتمان .
ترددت كثيراً من المشاركة في التشييع بل خفت، وخفت أكثر، وعرفت كم سيكون ثقيلاً ذلك النعش، وهل ترانا نقوى على حمله ؟!
لكني أعدت شريطاً عمره اثنان وثلاثون حولاً ونيف، في كل ذكرى وفي كل عِبرة، ومع كل عَبرة، لا أدعي أنني ذلك الهرم الذي كثير ما خالطته، لكن حالفتني حظوظي في حياتي أن تشرفت بعدة لقاءات حُفرت دون أن تسمح، لتذكر آخر أن يحتل مكانها .
ومع كل هدوء وقعدة وحدة كحالي الآن، يتسارع شريط الذكريات القاسي، أن يدور، وأنا الذي ما سمحت لنفسي ولن أسمح لها أن تضعف، كما لن أتركها تراه سوى ذلك القائد الذي اعتدته كلما أراه، ليبدأ الشريط مع المشهد الأول واللقاء الأول، حينما كنت لا أزال صغيراً لم أبلغ الحلم، حينما أتانا وتشرفت به قريتنا، بعيد استشهاد هادي، نجله، وكان اللقاء المباشر الاول والسلام الأول الذي ما تمنيته أن ينتهي، كيف لا ! ويداي تصافح حينها ذلك البطل الذي لا زال يعيش فقدان هادي . ثم تتوالى الذكريات في مخيلتي وأستجمع ذاكرتي أنْ كم كنت محظوظاً بمصافحة ذلك الجبل الذي ما اعتدته بل كنا نراه جميعاً شامخاً دوماً نحو الأعالي .
أعتذر منكي أيتها الكلمات، فلقد وصلني صوتك ووصلتني آهاتكي بأنه لم يعد بمقدوركي التحمل مثلي وربما أكثر، سامحيني فلقد أذقتكي ما أتذوقه الآن، علكي تكونين شريكتي الوحيدة، برفقة دموعي في ذلك الوقت الأسود، لتعيشين رفيقتي أيضا بيقين أنه ما كان له الا أن يغادرنا شهيداً، وهو والآخرين، ولربما ترافقينني بدموعكي حتى الثالث والعشرين من شباط، تشاركينني كما ستشاركين الجميع في حمل ذلك الصندوق الذي ما تخيلناه يوماً يدخله، ولن نقوى على حمله جميعاً .
سامحيني أيتها الكلمات، فلقد أشركتكي قسراً ولربما طوعاً في هذه اللحظات التي كنت قد رفضت ببوحها كثيراً، ولطالما آليت أن أحتفظ بكل ذكرى لنفسي، لكنه رحل وغادر كما رحل الآخرون وبات بالإمكان الآن، البوح ببعض تلك الذكريات .
أسرع يا شباط وغادر فلم نعد نحتمل، كل ما فعلته بنا، مع علمنا مسبقاً بأنه الطريق الوحيد الذي اختاروه، عملوا عليه دوماً ووصلوا إليه يوماً، فهنيئاً لهم ما اختاروا وهنيئاً لهم درب الوصول .
الى اللقاء أيها الأحبة، ما غادرتم ولن تغادروا، فعلاً لقد انتصرتم وفزتم حينما لم تعودوا .
حمزة العطار